لمن لم يدرك الحج هذا العام >
( أعمال صالحة تقوم مقام الحج والعمرة )
جزء من محاضرة : ( فضائل يوم عرفة )
للشيخ : ( محمد إسماعيل المقدم )
ذكر الله سبحانه وتعالى
وهناك أعمال قد تقوم مقام الحج والعمرة لمن عجز عنهما، فمنها ذكر الله
سبحانه وتعالى دبر كل صلاة، فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: (جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا
رسول الله! ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم،
يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون،
ويجاهدون، ويتصدقون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدثكم بما
لو أخذتم به لحقتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم
بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً
وثلاثين). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! ذهب
الأغنياء بالأجر يحجون ولا نحج، ويجاهدون ولا نجاهد وبكذا وبكذا، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم بأفضل
ما يجيء به أحد منهم: تكبروا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحوه ثلاثاً
وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين في دبر كل صلاة) وهذا رواه الإمام أحمد و
النسائي . إذاً: هذا مما يعوض من عجز عن الذهاب إلى البيت بعذر، فيستطيع
أن يصل إلى رب البيت بالتقرب بهذا العمل، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى
دبر الصلوات المكتوبة.
صلاة العشاء والغداة في جماعة
من ذلك أيضاً صلاة العشاء والغداة في جماعة، والغداة هي صلاة الفجر،
عن أبي ذر رضي الله عنه: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -يعني: الأغنياء- يصلون كما
نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أوليس قد جعل الله لكم صلاة العشاء في جماعة تعدل حجة، وصلاة
الغداة في جماعة تعدل عمرة؟!) وهذا رواه مسلم . قال أبو هريرة رضي الله
عنه تعالى عنه لرجل: (بكورك إلى المسجد أحب إلي من غزوتنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم). ولا شك أن أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالحج
والعمرة وغيرهما، فما تقرب العباد إلى ربهم بمثل أداء ما افترضه الله
عليهم، وكثير من النفوس يعسر عليها التنزه عن كسب الحرام والشبهات، ويسهل
عليها إنفاق ذلك في الحج والصدقات، قال بعض السلف: ترك فعل الشيء مما
يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة، يعني: هناك ما هو أولى من مجرد فعل
الفرائض، وهو التعفف عن كسب الحرام، والتنزه عن المال الحرام، فهذا من
أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى. قال الفضيل بن عياض مبيناً
باباً آخر من أبواب العبادة التي قد تفضل على حج التطوع: ما حج ولا رباط
ولا جهاد أشد من حفظ اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في همٍّ شديد،
وليس الاعتبار بأعمال البر بالجوارح، وإنما الاعتبار بلين القلوب وتقواها
وتطهيرها عن الآثام.
صلاة الفجر في جماعة ثم المكوث حتى تطلع الشمس لصلاة ركعتين
مما يعوض الحج والعمرة صلاة الفجر في جماعة، والذكر حتى طلوع الشمس،
وصلاة الركعتين بعدها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى
الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت
له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)، وهذا رواه الترمذي وصححه الألباني .
حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع
من ذلك أيضاً حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن
مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة)، وهذا حديث حسن. المقصود بالمشي إلى
صلاة التطوع: أن يمشي إلى المسجد يصلي صلاة الضحى مثلاً كما في رواية أبي
داود ، قال المناوي : من مشى إلى أداء صلاة مكتوبة فليسرع. والخصلة كحجة
يعني: كثواب حجة، ومن مشى إلى صلاة التطوع فهي كثواب عمرة، لكن لا يلزم
التساوي في المقدار.
الصلاة في مسجد قباء
كذلك الصلاة في مسجد قباء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه، كان له عدل عمرة)، وهذا
صحيح رواه أحمد في مسنده و النسائي و الحاكم وصححه الألباني . وقال صلى
الله عليه وسلم: (الصلاة في مسجد قباء كعمرة)، وقال صلى الله عليه وسلم:
(من أتى مسجد بني عمرو بن عوف -وهو مسجد قباء- لا ينزعه إلا الصلاة كان
له أجر عمرة). وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي رضي الله
عنه يقول: (لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من آتي بيت المقدس
مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل)، وهذا بدون سفر أو
شد الرحال، فالإنسان يأتي المدينة لزيارة المسجد النبوي ثم من السنة أن
يزور مسجد قباء. وهذا المسجد هو الذي نزل فيه وفي دياره قول الله سبحانه
وتعالى: فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة8]، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله قد رضي طهوركم يا أهل قباء).
شهود صلاة العيدين
كذلك مما يعوض فوات الحج والعمرة شهود العيدين: الفطر والأضحى، قال
ابن رجب : قال مخنس بن سليم وهو معدود من الصحابة: (الخروج يوم الفطر
يعدل عمرة، والخروج يوم الأضحى يعدل حجة). قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجه، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه! وينشد:
فقلت دعوني واتباعي ركابكم أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد ثم تنفس وقال:
هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن
الوصول إلى رب البيت؟! يقول الحافظ ابن رجب : إخواني! إن حبستم العام عن
الحج، فارجعوا إلى جهاد النفوس، أو أحصرتم عن أداء النسك، فأريقوا على
تخلفكم من الدموع ما تيسر، فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر، ولا تحلقوا
رءوس أديانكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة للدين وليست حالقة للشعر، وقوموا
لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان
قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإن رحمة الله
قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعيد
فليقصد رب البيت، فإنه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد. من فاته في
هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، ومن عجز عن المبيت
بمزدلفة فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، ومن لم يمكنه القيام
بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف، ومن لم يقدر على نحر هديه
بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى، ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد
فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد، إن لم نصل
إلى ديارهم فلنصل انكسارنا بانكسارهم، إن لم نقدر على عرفات فلنستدرك ما
قد فات، إن لم نصل إلى الحجر فلين كل قلب حجر، إن لم نقدر على ليلة جمع
ومنى فلنقم بمأتم الأسف ههنا. أين المريد المجد السابق؟! هذا يوم يرحم
فيه الصادق، من لم يُنِب في هذا اليوم فمتى ينيب؟! ومن لم يجب في هذا
الوقت فمتى يجيب؟! ومن لم يتعرف بالتوبة فهو غريب، أسفاً لعبد لم يغفر له
اليوم ما جنى، كلما هم بخير نفض الثوب وما بنى، حضر مواسم الأفراح فما
حصل خيراً ولا اقتنى، ودخل بساتين الفلاح فما مد كفاً ولا جنى، ليت شعري
من منا خاف ومن منا نال المنى! فيا إخواني! إن فاتنا نزول منى فلننزل
دموع الحسرات هاهنا، وكيف لا نبكي ولا ندري ماذا يراد بنا؟! وكيف بالسكون
وما نعلم ما عنده لنا؟! فلذا الموقف أعددنا البكاء ولذا اليوم الدموع
تقتنى، أخي! لئن سار القوم وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فما يؤمننا أن نكون
ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين. لله در ركائب
سارت بهم تطوي القطار الشافعات على الدجى رحلوا إلى البيت الحرام وقد شدا
قلب المتيم منهم ما قد شدا نزلوا بباب لا يخيب نذيره وقلوبهم بين
المخافة والرجا يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد
السائرين إلى ديار الأحبة وهو قاعد أن يحزن: عرض بذكري عندهم لعلهم إن
سمعوك سألوك عني قل ذلك المحبوس عن قصدكم معذب القلب لكل فنى إخواني!
نفحت في أيام الحج نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى
ما دعا. يا همم العارفين لغير الله لا تقنعي، يا عزائم الناسكين لدمع
أنساك السالكين اجمعي، لحب مولاك اخرجي وبين خوفه ورجائه اقرني، وبذكره
تمتعي، يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا ومروى
المروة اسعي وأسرعي، وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي، ثم إلى مزدلفة الزلفى
فادفعي، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي، فإذا قربت القرابين فقربي الأرواح
ولا تمنعي، فإنه قد وضح الطريق، ولكن قل السالك على التحقيق وكثر
المدعي!