إلا ابنتي
الثلاثاء 25 محرم 1433 هـ - 20 ديسمبر 2011 م
خالد خطاب
كان
الحاج رمضان رجلا عقيما، بلغ نهاية عقده الخامس ولما يرزق بالأولاد بعد،
ثم شاء الله أن تحمل امرأته، لتلد ولدا طال انتظاره، أقر به عينه، أسماه
عمر، كان مهجة قلبه وفلذة كبده، كبر وترعرع أمام عينيه، حتى صار كل شيء في
حياته..
بلغ عمر الرابعة من عمره، وكان كثير اللعب والحركة، وكان أبوه دائما ما
يوصد نوافذ البيت، شديد الحرص على ولده، إذ كان عمر يهوَى التسلق على
الكرسي للنظر من النافذة على المارّة، ما يعرّضه للخطر، وكان أبوه دوما له
بالمرصاد..
وفي صباح يوم، استيقظ عمر مبكرا –وكان لا ينام إلا في حضن أبيه-، فقال أبوه له في رفق: (نم قليلا يا بني، فالشمس أشرقت لتوّها)..
قالها الحاج رمضان وأخذته غفوة، ولكنّ عمر لم ينم، بل خرج من الغرفة، ليجد النافذة مفتوحة على مصراعيها..
ثوانٍ معدودة، وإذا بالحاج رمضان يستيقظ على صراخ الناس في الشارع..
نظر إلى جانبه فوجد الفراش خاليا من عمر!
هرع مهرولا إلى الأسفل، ليجد ابنه غارقا في دمائه، يوشك أن يفارق الحياة، فأخذ ينادي وصرخ: (الإسعاف! الإسعاف!)
حمله وهو في حالة انهيار تام، وعرض بعض ذوُو المروءة أن يأخذوه في
سياراتهم، وما أن همّ بالركوب في إحداها، إذا بجاره الأستاذ منصور، مدرس
التاريخ، يقف أمامه معترضا طريقه، قائلا: (أين كنت أيها الرجل وابنك يتسلق
ليقفز من أعلى!)
(آلآن تصرخ؟)
(لقد مات ابنك وفارق الحياة، فلا تبك على اللبن المسكوب)
بُهت منصور، وبُهت الجميع! وساد الصمت للحظة، صرخ بعدها الحاج في وجه منصور: (تنحّ الآن، ابني يموت، وأنت تعاتبني؟!)
أجابه منصور: (لقد مات وشبع موتا، ولو كنت أبا واعيا لما حدث ما حدث، فلتتحمّل!)
حتى هبّ أحدهم ودفع منصورا عن الطريق، وقفز الحاج رمضان وابنه في السيارة،
لكنّ قدر الله نافذ، وعلم الناس بعدها أنها لم تكن إلا دقائق معدودة، لفظ
بعدها عمر أنفاسه الأخيرة، وأسلم روحه إلى بارئها.
وبلغ الخبر منصورا، فما أحدث في قلبه أثرا يذكر! بل لو تأمّلت في عينيه
ساعتها لقرأت فيها كلماتٍ عجز لسانه عن البوح بها، فحواها: (هكذا أنتم، بعد
فوات الأوان تتعلّمون، وليتكم لنصحنا كنتم تستمعون!)
منصور أيها الكرام ليس بعديم المروءة ولا بخسيس الأصل، بل لعلك ستتعجّب إن
علمت أنه كان مضرب المثل وحديث الشارع إذا ما ذكِرت الشهامة، يحمل الكَل
ويكسب المعدوم ويعين على نوائب الدهر!
ولذا، فقد عجز الناس جميعا وقت الحادثة عن تفهّم موقفه، ولم يصدّقوا أعينهم، يقولون: (هل حقا هذا منصور، الشهم الشجاع!؟)
لكنّ الإشكال الذي كان منصور يعاني منه، هو أنه تربّى في بيته منذ صغره
على تعظيم بعض المبادئ، إلى حدٍ جعلها تطغى على غيرها، حتى أصبح في كل
محكٍ يراها ولا يكاد يرى سواها، فما أن تُخدش هذه المبادئ، إلا وتُلقى على
الفور غشاوة على عينيه، وتتنزل اللعنات على من خَدَشها، ولا يستطيع منصور
أن يتمالك نفسه، في حالة أقرب إلى الغياب عن الوعي، فيرى هذا المخطئ في
أحلك ظرف وأفجع مصيبة، فلا يستطيع أن يساعده ولو بالكلمة، بل لا يملك إلا
أن يلومه على تقصيره، الذي وضعه في هذا المأزق.
لم يشغل باله مصير عمر، هل سيفارق الحياة أم سينقذه الأطباء!
ما انشغل إلا بهذا "الجاهل" "المستهتر" "المفرّط"، الذي ترك ابنه ينظر من النافذة، ليسقط صريعا، وهو غارق في أحلامه متدثر بلحافه!
ولو تأمّل منصور تلك الحقيقة، أن الله قد خلق الإنسان ضعيفا، وأن كل ابن
آدم خطّاء، وأنه هو نفسه أحيانا ما يقع في شيء من ذلك، لكان له موقفٌ غير
الموقف، ولكنّ النسيان طبيعة البشر، وليس الخبر كالمعاينة، وليست النائحة
الثكلى كالنائحة المستأجرة!
ثم حدث أن مُنيت البلاد كلها بحالة انفلات أمني لا نظير لها، وكان من عادة
الأستاذ منصور من قبل أن يترك ابنته تلعب مع أصحابها أمام المنزل..
ثم أشيع أن بلطجية قد انتشروا في البلاد، يتقصّدون الأطفال، يختطفونهم ثم
يطالبون بالفدية، وغالبا ما يعجز أهل الضحية عن دفعها، فيكون القتل مصير
الطفل، إمعانا في إرهاب الناس.
وعلى الفور، دعا منصور ابنته رباب -ذات السبع سنوات- وبدأ يناقشها ويعرض عليها الأمر، حتى استجابت.
ولا تعجب أن لم يأمرها أو يجبرها على المكث في البيت، فقد كان شديد الحرص
عليها مُفرط في حبها، إذ لم يُرزق غيرُها، حتى أنه كان يتحاشى أن يأمرها
بما قد تكره أو ينهاها عما تحب، وكانت تلك الطريقة كثيرا ما تثير حفيظة
الأم بل وغيرتها، إذ كان معها غليظا بعض الشيء، ولكنها كانت دوما تقدّر
منزلة رباب في قلب أبيها.
ثم مرت أيام وأيام، وما ظهر بلطجي واحد، فطال العهد وأَمِن الناس، وأَمِن معهم منصور على أهله.
وأراد صاحبنا ذات ليلة أن يأكل "السوداني"، الذي يعشقه عشقا، قد اعتاد
تناوله قبل النوم، فأرسل ابنته إلى شرائه، مع أن الساعة كانت قد قاربت
الواحدة بعد منتصف الليل، ولكن البائع بينه وبين باب المنزل قرابة المائة
مترا، فلا ضير..
ونزلت رباب، لتلاقي قدرها المحتوم، إذ اختطفها رجل وفرّ بها مسرعا، وما
سُمِع في الشارع إلا صراخها، فنظر الأستاذ من شرفته، فوجد رجلا يحمل ابنته،
متوجها بها إلى سيارة تنتظره في نهاية الشارع، وهي ترفس وتحاول الفرار،
حتى سقطت على الأرض، فبدأ يضربها ويركلها في وجهها ويهينها، بل ويمزّق
ثيابها، ثم بدأ في سحلها على الأرض..
جُن جنون الأستاذ..
هرع إلى الشارع على الفور بلباس النوم حافيا، ليجد الشارع خاليا، فقد فر البلطجي، وضاعت رباب!
صرخ بأعلى صوته: (الغوث يا أهلي.. الغوث يا عشيرتي..)
حتى كان أول من نزل إلى الشارع، أخوه الأكبر زاهر، الذي كان يحب رباب حبا
جما، بالرغم من كثرة خلافه مع أبيها، ولكنه لما كان قد تربّى في نفس البيت
الذى تربّى فيه أخوه منصور، فإن قلبه قد أُشرب نفس الاعتقاد، وتطبع بنفس
الطبع وأصيب بنفس الداء، فأمسك زاهر بأخيه وعنّفه، ثم لطمه وأسقطه على
الأرض، وقال:( (كيف تسمح لها بالنزول أيها المغفّل في هذه الساعة؟)
(يا لخسارة جهد أبيك في مثلك يا مستهتر!)
ومنصور ينظر إليه في ذهول، قد انعقد لسانه وتوقف عقله عن التفكير، ثم أفاق وصرخ:
(يا زاهر، ابنتي تضيع! أهذا وقت العتاب؟!)
(دعني وشأني، أَلحَق بابنتي، لا تُفجعني فيها)
وزاهر يصفعه ويقول: (خطأ مَنْ هذا يا جاهل؟)
(فلتتحمّل عاقبة تقصيرك إن كنت رجلا!)
وهنا نَفَضَه منصور، وصرخ في وجهه والدموع على خديه، وقال: إلا ابنتي يا زاهر.. إلا ابنتي!)
وابتلى الله منصورا في رباب، كما ابتلى الحاج رمضان في عمر، وشعر وقتها
–ولأول مرة- بمرارة الفراق وهول الفاجعة، تلك التي كانت تعتصر قلب الحاج
رمضان يوم سقط عمر.