بسم الله الرحمن الرحيم
حُجّيّة الشافعي نحويا
الحمدُ لله رب العالمين ، والصلاةُ والسلام على أشرفِ المرسلين ، سيِّدِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحْبِه أجمعين ، وبعـــد حدثتني نفسي كثيرا من زمن مضى أن أتناول الإمام الشافعي – رحمه الله - من
حيث الدرس النحوي لما كنت قد قرأته عنه في كثير من كتب أهل العلم، وكلما
أقدمت على الكتابة حول هذا الموضوع استصغرت نفسي أمام هذا العالم الجليل ،
غير أنه قد جُمعت لدي أشياء أردت أن أجمع شتاتها وألم شعثها حتى تخرج في
ثوبها القشيب لعل الله – سبحانه وتعالى - أن ينفع بها فأقول سائلا الله
تعالى التوفيق والهداية والسداد :
من المعروفِ أن العلماءَ قد جعلوا الشعراء طبقات أربع :- الأولى : الشـعراء الجاهليون ، وهــم من كانوا قبل الإســلام كامــرىء القيـس ت 80 ق هـ ، والأعشـــى ت000 0 الثانية : الشـعراء المخضرمون ، وهم الذين أدركوا الجاهلية ، والإسلام كلبيـــد ت 41 هـ ، وحسان بن ثابت ت 54 هـ 0 وهاتان الطبقتان يستشهد بشعرهما إجماعا . الثالثة : الشعراء المتقدمون ، ويقال لهم : الإسلاميون ، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير ت 110 هـ ، والفرزدق ت 110 هـ 0 وهذه الطبقة يستشهد بشعرها على الصحيح . الرابعة : الشعراء المولَّدين ، ويقال لهم : المُحْدَثون ، وهم من جاءوا بعد المتقدمين إلى زماننا كبشار ت 167 هـ ، وأبى نواس ت 198 . وهذه الطبقة لا يُستشهد بكلاهما مطلقا ، وقيل يستشهد بكلام من يوثق به منهم واختاره الزمخشرى . قال السيوطى : " أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين فى اللغة العربية". { 1 } ونقـــل ثعـــلب عـــن الأصمعـى قــــال : خُتِم الشــــعرُ بإبراهـــيم بــن هَرْمـــة ت 150 هـ ، وهـو آخر الحجج".{ 2} والإمام الشافعي – رحمه الله – قد توفى سنة 204 هـ ، وهو بذلك يعد من الشعراء المولَّدين لكن
الذي نذهب إليه هو جواز الاستدلال بكلام الشافعى شعرا كان أو نثرا ، ففى
مطالعتى ما كتب عن موقف النحاة من بعض الشعراء المولَّدين رأيت الزمخشرى قد
استشهد بقول حبيب بن أوس { 3 } فقد
ذكرَ السيوطي أن العلماءَ أجمعوا على أنه لا يحتجُّ بكلام المولّدين
والمُحْدَثين فى اللغة العربية ، وفى " الكشاف " ما يقتضى تخصيص ذلك بغير
أئمة اللغة ورواتها ؛ فإنه– أى الزمخشرى – استشهدَ على مسألة { 4 } بقول
حبيب بن أوس ، ثم قال : وهو وإن كان مُحْدَثا لا يُستشهدُ بشعره فى اللغة ،
فهومن علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ألا ترى إلى قول
العلماء : الدليل عليه بيتُ الحماسة فيقتنعون بذلك؛ لتوثقهم بروايته ،
وإتقانه0 { 5 } ويتضح
مما ذكره الزمخشرى ونقله عنه السيوطى السبب الذى من أجله احتجّ واستشهد
بشعر حبيب بن أوس وهو من شعراء الطبقة الرابعة ، وهذا السبب يرجع إلى ما
يأتى:- الأول : أنه عالمٌ باللغة العربية الثانى : أنه ثقةٌ فيما يرويه الثالث : أنه متقنٌ للروايات كما
رأيت العلامةَ السهيلى وقد احتج بشعر أبى تمام أيضا ، ووافق الزمخشرى فى
ذلك ، على الرغم من أن أبا تمام من الشعراء المولَّدين ، فهومن الطبقة
الرابعة ، وقد عللَ السهيلىُّ الاستشهادَ بشعر أبى تمام بقوله : "
والطائىُّ ،وإن كان متولدا - ، فإنما يُحتج به لتلقى أهلِ العربيةِ له
بالقبول ، وإجماعِهم على أَنه لم يلحن " . { 6 } وقال فى موضع آخر : " وإنما نحتج بقول الطائى – وهوحبيب بن أوس – ؛ لعلمه ، لا لأنه عربىٌ يحتجّ بلغته "0{ 7 } ومن أمثلة استشهاد السهيلى بشعر أبى تمام قوله : وقال الطائى: مَنْ مُبْلِغُ الْفِتْيَانِ عَنِّى مَأْلِكاً أَنِّى مَتَى يَتَثَلَّمُوا أَتَهَدَّمُ
وقد استشهد بهذا البيت على أن الميم من " ملك " زائدة وأصله "مألك " من الألوك ، وهى : الرسالة0 ويتضح مما ذكره السهيلي ـ السبب الذى لأجله استشهد واحتج بشعر أبى تمام ، وهذا السبب يرجع إلى أمرين :- أحدهما : إجماعُ أهلِ العلم على أن أبا تمام لم يلحنْ الآخــــر : علمُ أبى تمام وإذا
نظرنا إلى هذه الأسباب التي ذكرها الزمخشري والسهيلي ـ ، والتي من أجلها
احتج النحاة بشعر أبى تمام ـ نجد أنها متوفرة في الإمام الشافعي ـ رحمه
الله ـ فلقد كان أعلمَ أهلِ عصره ، وكان على دراية كاملة ـ ليس بالفقه
والاجتهاد فحسب ، بل كان على دراية بعلوم الدين من تفسير وقراءات وحديث،
وأصول وشعر ونثر ولغة ، كما كان عالما بالأنساب والنجوم والطب ، ولقد كان
عدْلا أميناً ، فإن الأساسَ فى تعديلِ رجل ما : أن يكون ديّنا صادقا ، ليس
من أهل الأهواء 0 وإن من فضول القول أن يتحدث متحدث عن دين الشافعى وصدقه وطريقته ، وقدْ أجمعَ العلماءُ على ذلك ، بل أجمعوا على أنه فى ذلك من القلة النادرين . { 8 } ولقد اتفق العلماءُ قاطبة من أهل الحديث والفقة والأصول
واللغة والنحو وغير ذلك – على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة
عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلوِّ قَدْرِه وسخائِه . { 9 } يضافُ
إلى ذلك أن الشافعىَّ كانَ من أنبع أدباءِ العربية ، وكتابها ، وشعرائها
إن لم يكن أنبغهم ؛ فقد حفظ القرآن الكريمَ ،وحفظ الشعَر ورواياتِه، وخرَجَ
إلى البادية يُشَافه الأعراب ، ويسمع منهم ويحفظُ لغتهم ،
ويتدرّب على أساليبهم حتى كان أفصحَ أهلِ عصره ، وبقى فى هذيلٍ – وكانت
أفصحَ العرب – سبعة عشر عام – راحلا برحلتهم ونازلا بنزولهم ؛ ليحفظ سليقته
ويزداد معرفة وفقها بلغتها حتى صار كأنه واحدٌ منها يُحتجّ بكلامه كما
يحتج بكلامها ، حتى كانَ أهلُ العربية يحضرون مجلسه لا لشيء إلا أن يستمعوا
له ويستفيدوا لغته. { 10 } ولقد
قصد إليه – ؛ لتلقى شعر الهذليين عنه أو تصحيحه- كبار العلماء كالأصمعىِّ ،
كما صَحَّحَ الأصمعىّ أيضا على الشافعي شعرَ الشنفرَى . { 11 } يزاد
على ذلك أن الشافعى كان عالما بمتن العربية ، ولا أدل على ذلك من أننا
نجدُ أبا منصور الأزهري صاحب معجم "تهذيب اللغة" وإمامَ العربية في عصره
يصنف كتاب " الزاهر" في غريب لغة الشافعي ؛ إذ كانت ألفاظه عربية محضة ،
ومن عجمةِ المولَّدين مصونة0 { 12 } وواضـــح
أن تخصيصَ هذا الإمام اللغوى كتابا لشرح ألفاظ الشافعي يعنى الإيمان بكامل
فصاحته ، وأن ألفاظه ثروةٌ ينبغى أن تشرح لتضافَ إلى المفرداتِ الأصليةِ
ِلّلغة0 { 13 } فقد
ذكر المازنى أن الشافعي حجة عندنا في النحو{ 14 } ، وقـال ثعلب : يأخذون
على الشافعى ، وهو من بيت اللغة ، يجب أن تؤخذ عنه اللغــة { 15} ، كما ذكر
الإمام أحمد أن كلام الشافعي في اللغة حجة.{ 16 }، وقال بعضهم: خذوا عن الشافعى اللغة ، { 17 } وقال أبوعبيد : كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة . { 18 } وجاء في " تاج العروس " مادة " ع ول" عن الأزهري قوله : وقولُ الشافعىِّ نفسُه حجة ، لأنه – رضى الله عنه – عربي اللسانِ فصيحُ اللهجةِ { 19 } واتخذ عبد الملك بن هشام النحوي قول الشافعي حجة في اللغة. { 20 } والأنبابي
يرى أنه يجوز الاحتجاج والاستشهاد بشعره في النحو، فلقد استشهد الأنبابي
على جواز بقاء الخبر بعد " لولا " دون حذف بقول الشافعي : وَلَوْلاَ الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِى لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ ثم قال : " والذي عليه المعولُ أن الشافعي من العربِ العرباء فصح حينئذ أَنْ يُستدلّ بكلامه فى النحو". { 21 } إن الأنبابى يذهب إلى جواز الاستدلال بكلام الشافعى في النحو شعرا كان أو نثرا. هــذا
، ويرى الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله - أن الشافعي لغته حجة ؛ لفصاحته
وعلمه بالعربية ، وأنه لم يدخل على كلامه لكنة ، ولم يُحفظ عليه خطأ أولحنٌ
، وأن ما وُجد في لغته مما شذ عن القواعد المعروفة في العربية أو كان على
لغة من لغاتِ العربِ لا يحملُ على الخطأ بل يجعلُ شاهداً لما استعمل فيه
وحجة في صحته. { 22 } أردت أن أقول بعد هذا التطواف السريع حول لغة الشافعــي – رحمه الله - : إن كلامه – شعرا كان أو نثرا - ثروة ينبغي أن تشرح لتضافَ إلى شواهد النحو الأصليةِ وهذا لقناعة نفسي ورضاها بما سقته من البراهن الساطعة والأدلة النيّرة على حجية هذا الإمام العلم . والحمد لله في الأولى والآامل . دكتور / أحمد علي لقم كلية التربية للمعلمات بالأفلاج جامعة الملك سعود 14 من جمادى الأولى 1430هـ ______________ 1- الاقتراح في علم أصول النحو للسيوطي ص 70 2- العمدة لا بن رشيق ج 1ص 113 ، وخزانة الأدب للبغدادى ج 1 ص 5 3- هو أبو تمام حبيب بن أوس الحارثى الطائى ، الشاعر الأديب ، صاحب ديوان الحماسة . توفى – رحمه الله – سنة 231هـ . انظر وفيات الأعيان لابن خلكان ج 1 ص 131 4- استشهد الزمخشرى لمجىء " أَظلم " متعديا منقولا من ظلم الليل بقول حبيب بن أوس : هًمَا أَظْلَمَا حَالِى ثمتَ أَجْلَيـــــَا ظَلَامَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ وقبل البيت : أَحَاوَلْتَ إِرْشَادِى فَعَقْلِى مُرْشِدِى أَمِ اسْتَمْتَ تَأْ دِيبِى فَدَهْرِى مُؤَدِّبِى قوله : هما – راجع إلى العقل والدهر ، وقيل : إلى إرشاد العاذلة وتأديبها ، والاستيام
: التطلب ، افتعال من السوم ، وأراد بحاليه ما يتواتر عليه من المتقابلين
كالخير والشر ، والغنى والفقر ، والصحة والمرض ، والعسر واليسر ، والمقصود
التعميم 0 وإنما أسند الإظلام إلى العقل ؛ لأن العيش لا يطيب لعاقل، وإلى
الدهر ؛ لأنه يعادى كل فاضل0 وقوله
: أجليا أى : كشفا ظلاميهما ، وقوله : عن وجه أمرد أشيب من قبل التجريد ،
أى عن وجهى وأنا شاب فى السن وشيخ أشيب فى تجربة الأمور وعرفانها ، أو أشيب
فى غير أوانه لمقاساة الشدائد ، والهمزة فى أجليا للإنكار ، أى : ما كان
ينبغى أن تتجشمى فى الإرشاد والتأديب والفاء تعليل لمحذوف ، أى : لاتحاول
شيئا منهما فإن فى العقل والدهر كفاية منهما 0 ولو رُوى بالواو الحالية لم
يحتج إلى تقدير0 انظر حاشية الجرجانى على الكشاف ج 1 ص 220 5-
الاقتراح فى علم أصول النحو للسيوطى ص 70 ، والكشاف للزمخشرى ج 1 ص 220 ،
221 0 وذكر الجرجانى فى حاشيته على " الكشاف " ج 1 ص 221 : أنه لايستشهد
بأشعار المحدثين إلا بالوجه الذى ذكره الزمخشرى ، وهو أن يجعل ما يقوله
بمنزلة ما يرويه 0 واعترض
عليه بأن قبول الرواية مبنى على الضبط والوثوق ، واعتبار القول والاستشهاد
به مبنى على معرفة الأوضاع اللغوية ، والإحاطة بقوانينها ، ومن البيّن أن
إتقان الرواية لايستلزم إتقان الدراية ؛ فلا يلزم من تصديق العلماء إياه
فيما جمعه من الحماسة من أشعار من يستشهد بأقوالهم أن يكون جميع ما فى شعره
مسموعا منهم أو مستنبطا من القوانين المأخوذة من استعمالاتهم 0 وأجيب
بأنه صرّح أولا بكونه من علماء العربية ، ثم أشار إلى أنه ثقة باقتناع
العلماء فى الاستدلال بالأبيات بثبوتها فى الحماسة فإنه يدل على وثوقهم
بروايته ، كأنه أراد دفع أن يقال : كونه من علماء العربية ليس كافيا فى جعل
ما يقوله بمنزلة ما يرويه ، بل لابد من اجتماع العلم مع العدالة 0 نعم إن
كان مقصوده بتنوير الاستدلال على علمه بالعربية وإتقانه فيها ، وكونه ثقة
فيما يستعمله كان الاعتراض واردا قطعا 0 6- الروض الأنف للسهيلى ج 3 ص 144 7- المرجع السابق ج 3 ص 49 8- الظواهر
اللغوية فى لغة الإمام الشافعى للدكتور / صلاح عطية ص 10 ، والإمام
الشافعى فقيه السنة الأكبر للأستاذ / عبد الغنى الدقر ص 204 9- وفيات الأعيان لابن خلكان ج 4 ص 166 ، وتوالى التأسيس لابن حجر ص 67 وآداب الشافعى ومناقبه لابن أبى حاتم الرازى ص 89 10- ترتيب المدراك للقاضى عياض ص 383 ، وتوالى التأسيس لابن حجر ص 62 ، ومعجم الأدباء لياقوت الحموى ج 7 ص 300 11- معجم الأدباء لياقوت الحموى ج 7 ص 299 ، 300، وتهذيب الأسماء واللغات للنووى ج 1 ص 50 ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ج 4 ص 163 12- الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري ص 33، 34 13- الاحتجاج بالشعر في اللغة للدكتور / محمد حسن جبل ص 145 14- طبقات الشافعية للسبكى ج 2 ص 161 15- توالي التأسيس لا بن حجر ص 57 16- السابق 17- تهذيب الأسماء واللغات للنووى ج 1 ص 50 18- السابق 19- تاج العروس للزبيدى ، وتهذيب اللغة للأزهرى ، ولسان العرب لا بن منظور مادة " ع ول " 20- تهذيب الأسماء واللغات للنووى ج 1 ص 62 21 - تقرير الأنبابى على حاشية الصبان على منهج السالك للأشمونى ج1ص 44 22- الرسالة للشافعي تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر ص 659 .